
تقديم عام لمفهوم الغير:
تبين في درس الشخص أن هذا الأخير رغم ما يملك من مقومات إنسانية تساهم في تحديد هويته وإبراز قيمته، فإنه يحتاج إلى الغير ليحقق ذاته ووجوده، فما دام الشخص يعيش وسط تنظيم اجتماعي يفرض عليه أن يدخل في علاقات مع ذوات أخرى ليتعايش ويتواصل معها، يصبح هذا الشخص في حاجة إلى الغير، ولم يتبلور مفهوم الغير باعتباره آخر، مختلفا إنسانيا، وبوصفه مشكلة فلسفية، إلا في زمن متأخر نسبيا؛ وبصفة خاصة مع فلسفة هيغل.
لهذا يعتبر موضوع الغير من بين المواضيع التي استأثرت باهتمام الفلسفة و الفلاسفة، وخاصة الحديثة منها والمعاصرة، وذلك لما يحتله الغير من مكانة جوهرية في حياة الأنا كشخص، فالمرء يولد بمفرده، ويموت بمفرده، لكنه يحيا مع الآخرين، وبالآخرين وللآخرين، وفي غيابهم تعيش الأنا في عزلة قاتلة، لكن الأنا، وفي محاولتها للتواصل مع الغير، تصطدم بمفارقات يكشف عنها واقع الغير، فهو ذات تشبه الأنا، أي أنه يملك نفس المكونات التي تملكها الأنا؛ البيولوجية منها والنفسية والاجتماعية ( العقل – التفكير – الوعي – الإرادة- الحرية –المسؤولية..)، لكنه يختلف عنها في نفس الوقت (التقاليد والعادات – الدين- اللغة - ...)، فهو يحمل وعيا وذاكرة، وانتماءا أسريا واجتماعيا خاصا به، معنى هذا أن وضعية الغير ملتبسة، فهو مشابه ومخالف في نفس الوقت للأنا، ووضعية الالتباس هذه، هي التي تجعل منه موضوعا إشكاليا، يحمل مفارقات سواء على المستوى الأنطولوجي (الوجودي) أو المعرفي (الإبستمولوجي) أو الأخلاقي (الأكسيولوجي)، ويمكن التعبير عن هذا الالتباس على صيغة الإشكال الفلسفي التالي:
هل الغير موجود؟ وكيف يتحدد وجوده؟ هل معرفته ممكن أم مستحيلة؟ ما طبيعة العلاقة القائمة بين الأنا والغير؟ هل هي علاقة حب ووئام أم علاقة كره وإقصاء أم علاقة من نوع آخر؟.
المحور الأول: وجود الغير
تعود الجذور الفلسفية لإشكالية الغير إلى الفلسفة اليونانية من خلال مفهومي الآخر و"الهو هو " ، في إطار عام يعكس التقابل القائم بين الإنسان والعالم، أي بين الذات والموضوع، ومن تم لم يتبلور في الفلسفة اليونانية مفهوم الغير بوصفه أنا آخر أو ذاتا أخرى إلا مع ظهور الفلسفة الحديثة، ولاسيما مع رونيه ديكارت وهيغل.
فإذا كان الغير في دلالته الفلسفية الحديثة، وكما عرفه الفيلسوف الفرنسي الوجودي جون بول سارتر jean paul sartre (1905- 1980)، "هو الآخر، الأنا الذي ليس بأنا"، أي ذلك الوعي وتلك الذات المنفصلة عن ذاتي ووعيي، فهل وجوده يشكل ضرورة بالنسبة للأنا ومكونا أساسيا لوجودها، أم أن هذا الوجود افتراضي ومحتمل وقابل للشك؟ بمعنى آخر هل يدين وعي الذات لذاتها بشيء ما لوجود الغير، أم أن وجودها ينفصل ويستغنى عنه؟
المستوى التحليلي : تحليل نص جون بول سارتر
إشكال النص:
ما الذي يمثله وجود الغير بالنسبة للأنا؟ هل الأنا قادرة على أن تعي ذاتها وتدرك ماهيتها في غياب الغير أم أن الغير هو ذاك الوسيط الضروري الذي لا غنى عنه في سبيل وجود الذات وتحقيق الوعي بحقيقتها؟.
أطروحة النص:
لقد اتخذت إشكالية الغير في الفلسفة المعاصرة منحى أكثر عمقا وتجذرا، حيث سيشكل موضوعا أساسيا لأحد أبرز المباحث الفلسفية في القرن العشرين؛ خصوصا مع الفلسفة الوجودية، والتي يمثل جون بول سارتر احد أبرز أعلامها وفلاسفتها، فعلى الرغم من أن سارتر يعترف بأن "الآخرين هم الجحيم"، على اعتبار أنهم يحدون من حرية الإنسان، ويقيدون تصرفاته وأفعاله الحرة، ويمنعونه من الفعل بتلقائية وعفوية، إلا انه مع ذلك يمثل شرطا أساسيا لوعي الذات بذاتها، والوسيط الذي لا غنى عنه الذي يحقق علاقة باطنية بين الذات وذاتها، ولعل ما يؤكد هذا القول هو مثال الخجل الذي يقدمه للدلالة على هذا الأمر، إذ أنه شعور يحدث للأنا بسبب الغير وبحضوره، وبواسطة هذا الشعور تعود الذات إلى نفسها، وتعيها من جديد، وهذا ما يعبر عنه سارتر بقوله: "الغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني أنا وبين نفسي، فأنا خجول من نفسي حيث أتبدى (أظهر) للغير"، وبهذا المعنى فالأنا في حاجة لوجود الغير حتى يحقق إدراكا كاملا لذاته:" لكي أحصل على حقيقة ما عني ينبغي أن أمر عبر الغير".
تقديم تصور مارتن هايدغر للمناقشة:
بناء على موقف هيغل من وجود الغير وتأسيسا عليه نفهم على أن علاقة الأنا بالغير هي علاقة صراعا تهدف إلى تحويل أحد أطراف الصراع إلى عبد أو إلى موضوع، الشيء الذي دفع الفيلسوف هايدغر إلى اعتبار الغير تهديدا لوجودي الذاتي؛ فمعلوم أن كل ذات هي متفردة ومتميزة عن الذات الأخرى، وبالتالي لها كينونتها الخاصة والمتفردة والتي تجعل منها مختلفة عن كل الذوات الأخرى، إلا أن وجودي مع الآخرين (العيش –مع-الغير) هو وجود يمحو التمايزات والاختلافات والكينونة الخاصة لكل ذات؛ ويؤذي إلى خلق ذوات متشابهة ومنمطة (النمطية أي التشابه الكلي بين الذوات)، وبالتالي ذوبان الفرد الكلي في حياة الجماعة.
هكذا إذن فإن الوجود مع الغير في الحياة اليومية المشتركة مع الناس، يفرغ الذات من إمكاناتها أو تفردها، فيفقد الشخص "هويته الخاصة" ويتشابه مع جميع الناس وكأنه لا أحد..
تقديم تصور موريس ميرلوبونتي ( 1908- 1961):
يعتبر ميرلوبونتي أن وجود الغير هو وجود مستقل ووعي لذاته؛ وليس عبارة عن موضوع أو شيء من أشياء العالم الخارجي، لأن الغير يتبدى للأنا كوعي خالص، فالغير إذن شبيه ومماثل للأنا، باعتباره كائنا إمبريقيا مثل الذات، ومن ثم ، فإن ميرلوبونتي يميز بين نوعين من الوجود:
الوجود في ذانه: هو الوجود الذي يخص الأشياء؛ يقصد به هنا الجسد.
الوجود لذاته: الوجود الذي يخص الوعي.
وبالتالي، فإن وجود الغير هو في نفس الآن وجود في ذاته ووجود من أجل ذاته، فمن جهة ينتمي إلى عالم الأشياء، بإعتباره وجودا في ذاته، أي مجرد موضوع، ومن جهة أخرى فهو وعي باعتباره وعيا وذاتا، أي وجود من أجل ذاته.
تقويم ونقد النص:
أول نقطة إيجابية تسجل على هذا النص هي رفضه بشكل عام اختزال الإنسان، الغير، في ماهية بسيطة سواء منظورا إلى هذه الماهية من زاوية علمية أو من زاوية الفلسفة التقليدية (الديكارتية على الخصوص).
والنقطة الثانية أن هذه الأطروحة تتوافق ومبادئ العقل والمنطق، وفي هذا التوافق تأكيد على أن الغير ذات بالمعنى الفلسفي .
خلاصة تركيبية للمحور:
نخلص إذن إلى أن مسألة وجود الغير شكلت إشكالية فلسفية في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر نتجت عنها أطروحات وتصورات فلسفية متناقضة تجعل وجود الغير بؤرة للمفارقات، فهو من جهة موضوع أو شيء ( جسد) قابل للدراسة والتحليل، باعتباره وجودا في ذاته، ومن جهة أخرى فهو ذات أو أنا تتميز بالوعي باعتباره وجودا لذاته، كما أن وجود الغير قد يشكل نفيا للذات وإثباتا لها في نفس الآن، ما دام يسبب في توليد الخجل بالنسبة للذات، ويحد من حريتها وتلقائيتها، وفي نفس الآن هو شرط وجود الأنا، ما دام يمكن هذا الأخير من إثبات ذاته وتحقيق وجوده، هنا نتساءل : إذا كان الغير موجودا فهل يمكن معرفته؟ وكيف تتم هذه المعرفة؟.