
مدخل عام للمحور:
المعرفة بوجه عام : هي الفعل / النشاط الذي يدرك به العقل موضوعا، ويقصد بالموضوع كل ما يتجه إليه نشاط الذات العارفة، لكن موضوع المعرفة يتقابل في جميع الذات خاصة حين يكون شيئا خارجي، بحيث تعنى الذات الأنا الواعية والموضوع معطى فاقد لهذه الخاصية، فهل الغير قابل للمعرفة بهذا المعنى؟
إن افتراض قابلية الشخص للمعرفة يترتب عنه مباشرة أن الغير موضوع، أي إخضاع الغير للمعرفة يتضمن سلب الذات كل خصائص الإنسانية (الغير ذات) وعلى ذلك؛ فإن العلاقة المعرفية بين الأنا والغير قد تحمل تناقض.
فإذا قبلنا بضرورة وجود الغير بالنسبة للأنا، فهل معرفته ممكنة أم مستحيلة؟ إذا كانت معرفته ممكنة، فكيف تتم هذه المعرفة؟ هل تتم بالنظر إليه كموضوع مثل بقية الموضوعات والأشياء الخارجية، أم كأنا آخر يملك من الوعي والحرية ما تملكه الأنا، يعي العالم والآخرين ويدركهما، أم أن معرفتنا للغير هي مجرد افتراض وتخمين؟
المستوى التحليلي:
تحليل نص نيكولا مالبرانش:
إشكال النص: ما السبيل إلى معرفة الغير؟ وهل معرفته ممكنة أم مستحيلة؟
أطروحة النص:
يؤكد الفيلسوف مالبرانش التوجه الديكارتي بأن معرفة الغير معرفة مستحيلة، ويعتبر أنها لا يمكن أن تكون معرفة يقينية بل تبقى معرفة ظنية مبنية على الافتراض والتخمين؛ وذلك أن هذه المعرفة المفترضة بالغير تتأسس على مبدأ المماثلة والتشابه بين الأنا والغير على الأقل على المستوى السيكولوجي، ذلك أن الخطأ سيكون نصيبنا إذا انطلقنا من ذواتنا للحكم على ذوات الآخرين (ما يسمي بالاستدلال بالمماثلة)؛ حيث أن ما نشعر به ليس بالضرورة أن يشعر به الغير، وأكثر من ذلك إنه افتراض يبنى على وجود معارف مشتركة بينهما ( كاتفاق جميع الناس على أن ضرب 2 * 2 نتيجته هي 4 ، وأن الكل أكبر من الجزء ...)؛ إنه افتراض دال على الاستدلال بالمماثلة (أو ما يسمى بقياس الذات على الغير) ، إن المعرفة القائمة على الاستدلال بالمماثلة تكون قريبة من الخطأ أكثر من قربها من الصواب، بل إنها غالبا ما لا تكون صحيحة.
البنية الحجاجية للنص:
- حجة الإثبات: يثبت صاحب النص استحالة معرفة الغير بالاستناد إلى ماهيته ..
- حجة المثال: أشعر بالحرارة ...وأشم رائحة ...
- الاستدلال بالمماثلة: قياس الذات على الغير؛ المماثلة بين إحساسات الأنا والغير .
- الاستشهاد بالسلطة: أعلم أن أربعة هي ضرب اثنين في اثنين ...(حقيقة علمية).
- حجة الاستنتاج: وهكذا، فالمعرفة التي نكونها عن الآخرين كثيرا ما تكون معرضة للخطأ..
تقييــــــــــــــم الـــــــــــــــــنـــــــــــــص:
على المستوى البناء الداخلي للنص يمكن القول أن الأطروحة متماسكة وبالتالي تنسجم مع قرارات العقل والمنطق، وأكثر من ذلك فإن مضمونها يعكسه الواقع، أما على المستوى الخارجي فهذه الأطروحة تتكامل وأطروحة ج ب سارتر على مستوى نفيه إمكانية معرفة الغير.
تقديم تصور ج ب سارتر للمناقشة:
من خلال التصور الجحيمي للغير يرى سارتر أننا لا نعرف الغير إلا باعتباره موضوع أو طشيء خارجي، ذلك أن نظرة الغير تحولني إلى موضوع، ونظرتي أيضا للغير تحوله إلى موضوع أو شيء خارجي، لا يمكن النفاذ إلى أعماقه، ذلك أن نظرتي إلى الغير تنفيه كذات ونظرته إلي تنفيني، وتجردني من كل خصائص الذات (الوعي، الحرية، الإرادة..)، هكذا فالنظرة تجرد الغير أيضا من كل مقوماته كذات وتجعله شيئا من الأشياء القابلة للامتلاك، وبهذا المعنى لا يمكننا معرفة الغير – في نظر سارتر- إلا كموضوع خارجي، ذلك أن الأنا يقوم بتشييء الغير والغير يقوم بنفس الأمر، مما يخلق هوة عميقة ويصعب ردمها بين الأنا والغير، ويستحيل النفاذ والدخول إلى العالم الداخلي / الباطني للغير.
تقديم تصور موريس ميرلوبونتي للمناقشة:
ينتقد ميرلوبونتي تصور سارتر للغير، والذي يجعل منه جحيما، وأن نظرته تسلب الأنا كل مقوماتها وخصائصها الإنسانية، مؤكدا في مقابل ذلك على ضرورة تجاوز هذه النظرة الجحيمية والسلبية إلى نظرة إنسانية قائمة على التواصل والاعتراف المتبادل بين الذوات، ذلك أن نظرة الغير لا تحول الأنا إلى موضوع والعكس صحيح إلا عندما يغيب البعد الإنساني؛ وهذا ما يؤكده ميرلوبونتي حينما يقول:" الواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع، إلا إذا انسحب كل واحد منا وقبع (تقوقع) داخل طبيعته المفكرة (اعتزل الآخرين)، وجعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، وإلا إذا شعر كل واحد منا بأن أفعاله بدلا من أن تقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة"، وبناءا على هذا الاعتراف يصبح الغير قابلا لأن يعرف ويدرك من خلال "الاستدلال بالمماثلة"، حيث يقوم الأنا بقياس أفعال الغير من خلال أفعاله هو (إسقاط أفعال الذات على أفعال الغير)، ومن ثمة يدرك دلالتها عند الغير من خلال المعنى الذي يعطيه هو إياها.
بإمكاننا إذن أن ندرك الغير ونعرفه عن طريق المشاركة الوجدانية التي تقوم على التعاطف والتواصل معه ومشاركته مشاعره الخاصة باعتباره أنا آخر مثلي يمكنني إدراك عالمه الباطني مثلما أدرك عالمي الباطني.
تقييم النص:
إن ميرلوبونتي بهذا الإقرار ينتقد التصور الذي يعتبر بأن العلاقة بين الأنا والغير هي بالضرورة علاقة إقصاء ونفي وتشييء ( تصور ج ب سارتر ) ، وهذا الأمر لا يحدث في نظره إلا إذا انغلق كل منهما في طبيعته المفكرة ونظر إلى الآخر نظرة لا إنسانية كنظرته إلى حشرة.
خلاصة تركيبية للمحور:
يتبين لنا من تحليل ومناقشة التصورات السالفة الذكر والمتعلقة بمعرفة الغير؛ أن هناك تباينا في فهم عمق إشكالية معرفة الغير، فهناك من ذهب إلى القول باستحالة معرفة الغير، ,وذلك راجع إلى غياب اليقين فيما يخص عالم الآخرين، والسبب يكمن في أننا لا نرى في الغير إلا الظاهر منه أما الباطن فهو خفي عنا، وهناك على خلاف ذلك اتجه إلى القول بإمكانية معرفته، لأننا نعيش معه في نفس العالم، وبالتالي يمكننا التواصل والتعاطف معه والمشاركة العاطفية، إلا أن ما يهمنا بهذا الخصوص أن الغير سواء كان فردا أو جماعة، قريبا منا أو بعيدا، هو إنسان بالدرجة الأولى، ووجوده ضروري للذات، فهو الذي يمنحها الكرامة والفضيلة، إذا ما دخلت معه في علاقة تعاون وبادلته الاحترام والتقدير، بعيدا عن كل أشكال الهيمنة والتسلط ، وهنا نملك المشروعية لطرح السؤال التالي : أي علاقة تربط الأنا بالغير؟ هل هي علاقة اعتراف وصداقة وتسامح أم إقصاء وعداوة وعنف وصراع..؟