-->
U3F1ZWV6ZTE0NDc4OTI4OTEyX0FjdGl2YXRpb24xNjQwMjYyOTAzMzk=
recent
جديد

الجزء الثاني: الرواقية وأثرها على الفكر الإنساني .


المبحث الثالث:فلسفة الرواقية؛
يعتبر زينون أن الطبيعة خاضعة بدقة لحكم القانون ،ويبدو أن نظريته الكونية قد استلهمت آراء الفلاسفة السابقين لسقراط أساسا ؛فقد كان زينون يرى مثلما هيراقليطس أن المادة الأصيلة هي النار ،ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمضي الوقت ،وذلك على نحو يشبه نظريات انكساجوراس إلى جد ما ،وفي النهاية يحدث حريق شامل ،ويعود كل شيء إلى النار الأصيلة ،وتبدأ الأمور كلها سيرتها من جديد ،فيشرح اميل برهييه نظرية الطبيعيات او مبحث الكونيات في الفلسفة الرواقية بالتصور التالي : {{فمن النار الأولية ( ليس النار بتصورنا نحن وإنما هي الألق الوضيء للسماء) تتولد عبر سلسلة من الاستحالات ( العناصر الأربعة )،فجزء من النار يستحيل هواء ،وجزء من الهواء يستحيل ماءا ،وجزء من الماء يستحيل ترابا ،وبعد ذلك يولى العالم نفسا ناريا او بنوما إلهية قد نفذ إلى الرطب ،ومن كل هذا تتوالد لنا جميع الموجودات المفردة المترابطة فيما بينها في عالم واحد ،ولكل موجود منها صفته الذاتية ،فرديته غير قابلة للاختزال ،التي تدوم ما دام هو... }} ،فكل شيء من أجل هدف معين ،على نحو مقدر مقدما ،ان الطبيعيات الرواقية لا تفسح مجالا البتة للمصادفة او الفوضى ،وإنما لكل شيء مكانه في النظام الكلي ،لهذا الحركة والتغير عندهم لا تعنى أن الكون غير كامل وناقص بل الحركة بتعبيرهم : "الحركة في كل آن من آنائها فعل وليست انتقالا لفعل '' ،ان العالم الرواقي عالم يحدث ويضمحل بدون تشوب كماله شائبة ،ان العقل عندهم يخضع الكل الى سلطانه .

بخصوص هذا الموضوع بالذات يبين شيشرون وهو أحد المصادر الأساسية التي اعتمدت من أجل التعرف على الفلسفة الرواقية ؛كما رأينا ذلك سابقا ،في بحث مخصص لطبيعة الآلهة،سخف المفكرين والفلاسفة أمثال أبيقور الذين يعتقدون  خلافا لما يقوله الرواقيون بأن العالم ليس كونا أو نظاما ،بل على العكس فوضى عظمة ،هذا ما رد به شيشرون : {{ ليسخر أبيقور قدر ما يشاء ،لأن هذا لا يمنع أنه ليس هناك شيء أكثر كمالا من هذا العالم...العالم كائن حي يتمتع بوعي أو بذكاء وبتفكير .. }}، ولهذا فإله الرواقيين هو إله يحيا مع معشر البشر والكائنات العاقلة ، وينظم كل ما في الكون لصالحهم ،وقوته تتغلغل في الأشياء طرا ،وما من تفصيل مهما استدق يفلت من عنايته الالهية ،لهذا فالفاعلية الالهية لا تعد شيئا خارجا عن العالم ،و انما هي تسري فيه (إنه بمعنى آخر محايث للغير مفارق) ، كالماء حين يتسرب في الرمال ،وهكذا فإن الله قوة كامنة ،يحيا جزء منها داخل كل كائن بشري ،ولا غرابة في أن الكون الحي الذي قال به الرواقيين يرتبط بمأثور أيوني (الكون في التصور الأفلاطوني من خلال محاورة تيماوس ينظر له كالكائن الحي) ، انهم يفردون مكانة كبيره للاله ؛فالكيفية التي يتصورون بها صلة الله بالإنسان وبالكون تتسم بسمات جديدة لم يسبق لنا قط أن التقيناها لدى الاغريق بتعبير اميل برهييه ،فالإله للكون كالنفس للجسم البشري: {{فهم يتصورون كل جسم سواء أكان حيا أم جمادا ،على منوال الكائن الحي ،فالنفس (بنوما RNEUMA) الذي فيه هو ما يمسك الأعضاء ،ويسدها إلى بعضها البعض ،و اختلاف درجة توتر هذا النفس هو ما يفسر صلابة الحديد وصلادة الحجر على حد سواء ،والكون في جملته عبارة عن كائن حي أيضا ،تتماسك أجزاؤه بفضل النفس التي هي بدورها عبارة عن نفس ناري يتغلغل في الأشياء قاطبة...}}
لهذا فالحكيم الرواقي يعيش في تناغم مع عقله أي مع الطبيعة ،بحيث يجد راحة نفسه أو ''أتاراكسيا ATARAXI'' عبر الابتعاد عن كل ما يكدره ،وخاصة عبر الابتعاد عن الأهواء التي كان الرواقيين يتعاملون معها كنوازع غير طبيعية ،ان لم نقلل كعلل نفسية ،وبالتالي فالفضيلة عندهم تستند أساسا إلى انعدام اتباع الأهواء والشهوات والرغبات أو " الأباثيا APHATLIA"  ،وما تستدعي من تحكم في الإرادة ،وبالمحاكمات الداخلية من أجل قبول القدر والترفع المتسامي عن الأشياء وسفالات البشر.
المطلب الأول:العقلانية الرواقية؛
ان زينون هو  "نبي اللوغوس" كما عبر عن ذلك اميل برهييه ،وما الفلسفة إلا وعيينا بأن لا شيء يصمد له أو لا شيء بالأحرى يوجد خارج نطاق العقل ،فالفلسفة هي {{علم الأشياء الالهية والبشرية}} أي جميع الكائنات العاقلة ،ذلك ما دامت الطبيعة مستوعبة هي نفسها في الأشياء الإلهية ،وبذلك تكون مهمتها قد رسمت ،وسواء أتعلق الأمر بالمنطق ونظرية المعرفة أم بالأخلاق أم بعلم الطبيعة ،فإن قوام هذه المهمة في الأحوال جميعا استبعاد اللامعقول ورؤية فعل العقل الخالص وحده ،دون سواه في الطبيعة كما في السلوك .
هل عقلانية الرواقيين هي استمرارية لتعقلية سقراط/أفلاطون/ارسطو؟
انطلاقا مما جاء في كتاب تاريخ الفلسفة لإميل برهييه،فهناك اختلاف شديد بين عقلانية هؤلاء وعقلانية الرواقيين ،فالأولون لهم منهج جدلي يمكن معه تخطي المعطى الحسي لبلوغ  الصور والماهيات النسيبة للعقل ،وبالمقابل فالرواقيين عقلانيتهم لا تنطوي على أي منحى منهجي من هذا القبيل ،فليس مبتغاها كما من قبل استبعاد المعطى الحسي المباشر ،بل على العكس معاينة العقل وهو يتجسد فيه ،وليس ثمة من تقدم من المحسوس إلى المعقول ،اذ ليس ثمة من فارق بين أحدهما والآخر ،{{وحيثما يراكم أفلاطون الفروق ليخرج بنا من الكهف ،لا يعاين الرواقي سوى وحدة الهوية }}  .
ومن هنا التضامن اللازم بين أقسام الفلسفة الثلاثة حسب الرواقيين ؛المنطق _ الطبيعيات_الاخلاق ،وهي الاقسام التي يوزعون بينها المسائل الفلسفية ،وكل قسم عندهم تابع للأقسام الاخرى ،وليس له استقلال ذاتي ،على اعتبار ان عقلا واحدا متماثلا هو ما يربط في الجدل بين المقدمات والنتائج ،ويجمع في الطبيعة بين العلل كافة ،ومن المستحيل ألا يكون رجل الخير هو عينه رجل الطبيعيات والجدل ومن المتعذر تحقيق العقلانية في أي من هذه المضامير على حدة .


المبحث الرابع : وقفة مع منطق الرواقية القديمة؛
تنطلق المعرفة بحسب الراقيين من الصورة التي يخلفها المحسوس أو المدرك في النفس ،وهذا الانطباع أشبه ما يكون لدى زينون بذلك الذي يطبعه خاتم في الشمع ،أو لدى كريزيبوس بالتغير الذي يحدثه اللون او الصوت في الهواء ،هذه الصورة هي اول حكم على الأشياء يعرض للنفس ،ان الإحساس هو فعل عقلي متمايز أشد التمايز عن التصور  والتخيل .
ان صلابة العلم تعود بالأساس الى أن الإدراكات تتآزر ويساند بعضها بعضا لدى الحكيم بحيث يتمكن من استشفاف توافقها وائتلافها العقلاني ،كان زينون يخص هذا على نحو جميل جدا كما لا يخلو من الغرابة أيضا (نظرية اليقين في العلم) حينما يقول اميل برهييه :{{كان يبسط يده ويمد أصابعه ويقول هذا هو التمثل ،ثم يثني أصابعه ثنيا خفيفا ويقول هذا هو التصديق ،ثم يطوي قبضته ويقول هذا هو الإدراك ،وأخيرا يضغط على قبضه على قبضته اليسرى ويقول :"ها كم العلم الذي ما أوتيه إلا الحكيم "}} .  
كل هذا ينفي بحسب اميل برهييه الاعتقاد الذي يقول بأن الرواقيين كانوا حسيين ،لأن المعرفة عندهم مشربة منذ البداية بالعقل ومتهيئة سلفا للتكيف مع العمل المنهجي للعقل ،والأفكار الفطرية والشائعة كفكرة الخير والعدالة وفكرة الالهة هي أفكار في اعتقادهم أنها تتكون لدى جميع الناس في سن الرابعة عشرة ؛ان جميع هذه الافكار تشتق من استدلالات عفوية انطلاقا من ادراك الأشياء ،ففكرة الخير مثلا ؛تأتي من مقارنة يجريها العقل بين الأشياء يتم ادراكها مباشرة بصفتها خيرة ،وفكرة الله تأتي استنتاجا من مشهد جمال الأشياء ،وكل ما في الأمر أن هذه الاستدلالات عفوية ومشتركة بين كل الناس.
ان كل معرفة بحسب المنطق الرواقي انما تنبع عن الحواس ،لكن الذهن الفعال هو الذي يضع أولى معطيات هذا التوجه ،حيث مصادقا عى الاحساس ،يتلمس وجود الشيء المحسوس ومن ثم عن طريق التلمس المتفهم يشكل أفكارا عامة ،قبل أن يصل به الأمر إلى العلم الذي هو معرفة منهجية.
ان الجدل الرواقي ينصب لا على الأشياء وإنما على المنطوقات الصادقة او الكاذبة المتصلة بالاشياء ،وأبسط هذه المنطوقات الصادقة أو الكاذبة تتألف من موضوع معبر عنه بإسم موصوف او بضمير، ومن محمول معبر عنه بفعل ،والمحمول بحد ذاته مقول ناقص يتطلب موضوعا .
«    مثال:
سقراط (الموضوع) يتنزه (المحمول) .
ان نمط القضايا الحملية التي يستخدمها الرواقيين لا يمت بصلة الى نمط المنطق الأرسطي أو الأفلاطوني ،فالقضايا لا تعبر اطلاقا عن علاقة بين معان أو تصورات ،فموضوعها على الدوام جزئي سواء أكان محددا (هذا) أم غير محدد (أحدهم) أم نصف محدد (سقراط) ،والمحمول على الدوام جزئي.

لقد انتسب إلى الفلسفة الرواقية كثير من الفلاسفة يمكن تقسيمهم إلى عصرين ،فلاسفة العصر القديم الذين قدموا الرواقية اليونانية ،ثم ظهر في القرنين الثاني والأول ق . م وما بعدهم شخصيات يرجع إليها الفضل في ادخال هذه الفلسفة الى العالم الروماني ،ان ثلاثة من هؤلاء من كان لهم الأثر الكبير  في استمرار المدرسة الرواقية هم سنيكا الوزير وأبكتيتوس العبد وماركوس أوريلوس وقد عاشوا في القرنين الأولين للميلاد .
الاسمبريد إلكترونيرسالة